الحرب الرمزية- فلسطين بين سرديات التاريخ وسحر الصورة

المؤلف: د. عبد الله معروف08.30.2025
الحرب الرمزية- فلسطين بين سرديات التاريخ وسحر الصورة

إنَّ القضية الفلسطينية تتبوأ مكانةً فريدةً على مستوى العالم نظرًا لتعقيداتها المتشعبة وطبيعة الصراع المحتدم فيها. فالنزاع على هذه الأرض المقدسة لا يقتصر على كونه صراعًا سياسيًا فحسب، بل يتعداه ليشتمل على أبعاد أيديولوجية واجتماعية واقتصادية ودينية ونفسية واجتماعية، مما يجعله صراعًا شاملاً ومتجذرًا. ولعلّ حرب الرموز والصور تُعدّ من أبرز تجليات هذا الصراع الممتد.

إنَّ المشهد الذي ظهر فيه بنيامين نتنياهو قبل أيام، وهو يتجول في نفق يقع تحت أرض قرية سلوان، مدعيًا أنَّ أرضية الطريق التي يسير عليها تعود إلى الحقبة اليهودية، وأنَّ "أجداده" ساروا عليها، يحمل دلالات رمزية مقصودة خلال احتفال دولة الاحتلال بما يسمى "يوم القدس"، الذي يمثل ذكرى احتلال القدس الشرقية عام 1967.

وبالمثل، كان مشهد أعلام الاحتلال التي رُفعت بكثافة في صباح ذلك اليوم للمرة الأولى داخل المسجد الأقصى المبارك، بمثابة إعلان بأنَّ "مسيرة الأعلام" التي تُنفذ سنويًا في شوارع القدس، قد انطلقت أولاً وقبل أي مكان آخر من داخل المسجد الأقصى.

أضف إلى ذلك، فإنَّ إدخال القرابين الحيوانية إلى المسجد الأقصى المبارك خلال ما يسمى "الفصح الثاني" قبل أسابيع قليلة، يحمل رمزية عظيمة تتجاوز مجرد إدخال ماعز إلى المسجد الأقصى. فقد اعتبر المستوطنون أنَّ تمكنهم من إدخال القربان إلى حدود المسجد هو بمثابة إشارة إلهية تدل على قرب تمكنهم من ذبح القربان داخله.

ولم يكن المشهد المأساوي الذي شهده المسجد الأقصى المبارك في الثاني من يونيو/ حزيران الجاري خلال احتفال المستوطنين بما يسمى "عيد نزول التوراة" بمنأى عن هذه الصورة الرمزية. فقد تسلل ثلاثة مستوطنين ومعهم قطع لحم تقطر دمًا من ماعز مذبوح على سبيل القربان، وحاولوا وضعها على أرضية قبة السلسلة المجاورة لقبة الصخرة المشرفة، لولا تدخل المرابطات والمرابطين في المسجد الأقصى الذين قبضوا عليهم في اللحظة الأخيرة.

والهدف من هذه العملية لم يكن يتجاوز مجرد وضع هذا اللحم الملطخ بالدماء على أرض قبة السلسلة، وذلك لإتمام الصورة الرمزية المطلوبة. إذ يعتقد هؤلاء المستوطنون أنَّ موضع قبة السلسلة هو المكان الذي كان يقع فيه "المذبح" في عهد المعبدين الأول والثاني المتخيلين. وبالتالي، فإنَّ مجرد وضع دماء ولحم هذا "القربان" في أرض "المذبح" كان سيمثل انتصارًا رمزيًا كبيرًا لهذه الجماعات، حيث كانوا سينجحون في ترسيم هذه النقطة كمذبح كما هو مذكور في شروح التوراة، حتى وإن لم يتمكنوا من حرقها كما هي العادة الدينية، أو لم يتمكنوا حتى الآن من تنفيذ طقس ذبح القربان نفسه داخل المسجد الأقصى.

والأمر لا يقتصر على القدس فحسب، بل إنَّ فكرة الرمزيات لم تغب عن ذهن الاحتلال حتى في حرب الإبادة المستمرة على غزة. فعمليته الأخيرة التي أطلق عليها اسم "عربات جدعون" تشير إلى أسطورة البطل التوراتي "جدعون" في سِفر القضاة، والذي أرسله الرب ليجمع بني إسرائيل ويحارب بهم أهل مَديَن الأقوياء، ولم يتبق معه من كل الشعب الذي خذله سوى 300 محارب تمكن بهم فقط من الانتصار على العدو، في قصةٍ مماثلةٍ إلى حد بعيدٍ لقصة "طالوت" التي ذكرها القرآن الكريم.

وبذلك، قدم نتنياهو نفسه لشعبه في هذه الصورة الرمزية كـ "جدعون" الجديد الذي يقاومه ويخذله أغلب الشعب، ولا يفهمه إلا القلة فقط، وأنه على الرغم من ذلك سينتصر كما انتصر "جدعون" من قبل.

وبالمثل، فعل نتنياهو ذلك غير مرة في بداية حرب الإبادة، عندما حرص هو وأركان حكومته على الإشارة إلى الشعب الفلسطيني بلقب "العماليق" لتشبيهه بشعب العماليق الذي كان لا بد من إبادته كما ورد في التوراة.

منذ أن وطأت أقدام الاحتلال الإسرائيلي هذه الأرض، استخدم الرموز على الدوام في صراعه مع السكان الأصليين، وذلك لأنَّ الرمزية والصورة تمتلكان سحرًا خاصًا في تعزيز مركز صاحبها في صراعه مع الطرف الآخر، وكسب الرأي العام الداخلي والخارجي على حد سواء دون الحاجة إلى الكثير من التأويلات والشروح.

وسواء أردنا ذلك أم لا، فإنَّ الأهمية الدينية الخاصة للأراضي الفلسطينية بشكل عام، والقدس بشكل خاص، هي التي تمنح الرأي العام العالمي مكانةً لا يستهان بها في هذا الصراع.

وقد شاهدنا ذلك مرارًا وتكرارًا في محطات عديدة، حيث كان لتدخل القوى الدولية والرأي العام العالمي أهمية قصوى في توجيه شكل ونتائج الصدام على الأرض، ولا يوجد دليل على ذلك أفضل من قرار تقسيم فلسطين عام 1947 الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة، وليس مجلس الأمن فحسب، وبالتالي كان قرارًا أمميًا عالميًا ما زالت إسرائيل ترفعه في وجه الفلسطينيين كلما مرت الأراضي الفلسطينية بمحطة من محطات الصدام.

وكون الجمعية العامة في ذلك الوقت هي التي تبنت هذا القرار، فإنَّ ذلك يشير إلى حجم التأييد العالمي الواسع في ذلك الوقت للسردية التي قدمتها الحركة الصهيونية، لا سيما في أعقاب الحرب العالمية الثانية، في مقابل ضعف السردية التي تبناها العالم العربي أمام بقية دول العالم.

وقد اعتمدت هذه السردية الصهيونية بشكل كبير على الرمزيات، فالحركة الصهيونية لطالما ربطت اسمها بجبل صهيون في القدس، وجعلت "الأمل" عنوانًا لنشيدها الوطني، وحتى العملة الإسرائيلية الأصغر "العشر أغورات" على سبيل المثال تحمل صورة لعملة قديمة متآكلة عُثر عليها في القدس، وعليها نموذج لشمعدان يهودي، وقد أصبحت هذه العملة القديمة رمزًا للأحقية التاريخية لليهود في هذه الأرض!

كما أنَّ التسميات التي اختارها الاحتلال للمواقع والمستوطنات تحمل كلها دلالات رمزية خاصة مرتبطة بالتوراة والتاريخ اليهودي في هذه المنطقة وفقًا لرؤية الاحتلال.

كل ذلك يهدف إلى جعل الاحتلال جزءًا أصيلًا من سردية التاريخ في هذه الأرض، بهدف إقناع بقية العالم بحقه "الطبيعي" في الوجود على هذه الأرض، حتى وإن كان الثمن هو إحلال شعب مكان شعب، وتنفيذ عملية تطهير عرقي غير مسبوقة خلال النكبة الفلسطينية.

وفي المقابل، فإنَّ حرب الرمزيات ليست بعيدة عن المقاومة الفلسطينية، التي تعلمت الكثير من الدروس خلال هذا الصراع المرير، وتبنت رؤية إستراتيجية واضحة تتضمن العديد من الرمزيات التي تقدمها للعالم أجمع، وتحاول من خلالها تعريف نفسها وتوجهاتها بشكل واضح ومبسط، وذلك بعد أن كان الجانب الفلسطيني حتى ثمانينيات القرن الماضي تقريبًا بعيدًا عن التفوق في حرب الدعاية والرمزيات.

فالمقاومة الفلسطينية حرصت دائمًا على تقديم صورتها باعتبارها حركة مقاومة مرتبطة بهذه الأرض تحديدًا، ولذلك نجد أنَّ خريطة فلسطين الانتدابية تشكل جزءًا من الشعار البصري لمعظم الفصائل الفلسطينية الوطنية والإسلامية.

كما تحرص الفصائل الفلسطينية الإسلامية على وجه الخصوص، مثل حركتي حماس والجهاد الإسلامي، على إبراز صورة قبة الصخرة المشرفة، التي تمثل رمز المسجد الأقصى المبارك وقلبه، في شعاراتها وشعارات أجنحتها العسكرية. وهذا الأمر يجعل المسجد الأقصى المبارك، بما يحمله من رمزية دينية كبرى، جزءًا لا يتجزأ من رسالة هذه الفصائل.

كما أنَّ رمزية التسميات لا تغيب عن ذهن الفصائل الفلسطينية، فانتفاضة الحجارة كان لها مفعول السحر في لفت الأنظار إلى القضية الفلسطينية، باعتبار أنَّ الفلسطيني المدني يقاوم الاحتلال بالحجر، وهو أبسط المكونات، وكذلك كانت رمزية انتفاضة الأقصى التي ارتبطت بالمسجد الأقصى.

أما الحروب المتتالية في قطاع غزة، فقد شهدت ذروة الإبداع الفلسطيني في معركة الرمزيات، حيث أطلقت المقاومة الفلسطينية على تلك الحروب تسميات ذات بعد رمزي كبير وعميق، مثل: معركة الفرقان عام 2008، ومعركة حجارة السجيل عام 2012، ومعركة العصف المأكول عام 2014، ومعركة سيف القدس عام 2021، وصولًا إلى عملية طوفان الأقصى عام 2023.

والمتعمق في فهم مكونات هذه التسميات يلاحظ تدرجًا في الأسماء وترابطًا فيما بينها، وصولًا إلى أضخم عملية أطلقتها المقاومة الفلسطينية في تاريخها، وهي طوفان الأقصى، وهو ما يعطي انطباعًا بتدرج الفعل الفلسطيني من التمايز والتحضير وتمركز القدس في المعركة إلى التحرك العارم الكبير باسم "الطوفان".

وخلال الحرب المستمرة، نلاحظ كذلك اعتماد المقاومة على عنصر الرمزية بشكل كبير في طريقة تسليم الأسرى بملابس عسكرية للعسكريين وملابس مدنية للمدنيين، ونشر شعارات محددة في المنصات خلال تلك العمليات التي شهدها العالم على الهواء مباشرة.

ويصل السجال الرمزي إلى ذروته مع حرص المقاومة على إظهار فهمها للرسائل الرمزية الإسرائيلية والرد عليها بالمثل في العملية الجارية حاليًا خلال كتابة هذه السطور، وهي العملية التي يطلق عليها نتنياهو اسم "عربات جدعون" كما ذكرنا آنفًا، في تبنٍّ للقصة التوراتية القريبة لقصة طالوت في سورة البقرة في القرآن الكريم، لترد المقاومة بإطلاق سلسلة عمليات باسم "حجارة داود"، ومن الواضح هنا أنَّ المقصود هو النبي داود عليه الصلاة والسلام، والذي تقول القصة التوراتية إنه قتل عدوه بحجر ومقلاع، وكأنَّ المقاومة في ذلك تقول لإسرائيل: إنَّ نتنياهو ليس "جدعون" التوراتي ولا "طالوت" القرآني، وإنما هو "جالوت" العدو الذي قضى عليه الفتى داود الذي لم يتخيل أحد أن يتمكن منه، وأنه كما ورد في القصة الدينية سينتصر ويؤتيه الله المُلك، وأنه يقاتل بالحجر أبسط الأدوات، معيدةً بذلك الاعتبار للحجر كذلك، وهو رمز الانتفاضة الأولى.

هذه الرمزيات بكثافتها تشكل مادة خصبة في الحرب النفسية بين الجانبين، ولعلَّ رمزية ربط الحدث برمته بالمسجد الأقصى المبارك تعتبر إحدى أهم النقاط التي راهنت وما زالت المقاومة الفلسطينية تراهن عليها في ربط هذه المعركة بامتداد الأمة بمفهومها العربي والإسلامي.

بينما يعول الطرف الآخر على جر التيارات الدينية المحافظة في الغرب على وجه الخصوص إلى معسكره من خلال استخدام الرمزيات الدينية التوراتية.

هذه الحرب، إذن، ليست مجرد معركة محلية أو إقليمية، بل لها امتدادات تتجاوز الحدود الفلسطينية وتتجاوز الإقليم، وكل ما نشاهده بالفعل من آثار عالمية لما يجري اليوم في الأراضي الفلسطيني يؤكد ذلك.

ولعل هذا ما يمنح القضية الفلسطينية برمتها دفعة إلى الواجهة العالمية بعد محاولات مضنية من أطراف متعددة لطمسها وحصرها في الشعب الفلسطيني وحده تحت شعار: "فلسطين ليست قضيتي"، أو "القدس ليست قضيتي" التي كانت تُنشر على وسائل التواصل الاجتماعي، لتأتي هذه الحرب وتثبت أنَّ تلك الشعارات لم تكن في الحقيقة تتجاوز شاشات الهواتف فقط.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة